قصيدة ودراسة
(أبي
قال لي) - وصية من الزمن الجميل
خالد جوده أحمد
الأديب والصحفي الراحل الورداني ناصف غني عن
التعريف، فإضافة إلي وزنه كأحد كبار الشعراء، فإنه لم يكن يقنع أن تظل الكلمة
ساكنة، منطوية علي ذاتها، بل أراد لها أن تكون محلقة في أفق الواقع تنسج حلما،
وتؤسس قيما، وتنهض بالحياة، والشواهد علي قولي متعددة، منها ما أشار إليه أحد
الكتاب بأن الشاعر الكريم: (يجوب بقاع مصر سنويا من أسوان إلي الإسكندرية
ليقلٌب في التربة بحثا عن مواهب، وهناك جيل كامل في
الساحة أفراده ينتشرون شرقا وغربا يدينون بالفضل له)( 1 )، فهو لم يكتفي بصالونه الأدبي
الشهير بنقابة الصحفيين والذي كان يستقبل فيه عشاق الأدب كل يوم أربعاء، بل تجول
في أنحاء مصر بل والدول العربية يرصد نبات الإبداع ويمده بالدعم، فأديبنا يتمتع
بجانب إنساني رحب وتواضع جم، وحين نلتقي بالكاتب الكريم نعجب كثيرا من أدباء آخرين
قد يكونوا أنصاف أو أرباع موهوبين يتيهون علي أعناق الناس كبرا، وهم بعد مصابين
بالنرجسية الشديدة رغم أن أدائهم الأدبي والفني ما زال يخطو علي الطريق خطواته
المتعثرة.
والأديب الكريم عمد من خلال عمله الصحفي، وشغله
لعدد من أماكن التحرير - منها نائب رئيس تحرير جريدة السياسي المصري (ورئيس القسم
الثقافي بالجريدة ذاتها)، كما كان مسئولا عن الصفحة الأدبية بصحيفة المسائية بدار
التعاون ( 2 ) قبل أن ترحل لدار اخبار اليوم - في كتابة أخرى
ناشطة، فاهتمامه الأول ينصب نحو الحياة الثقافية وإصلاح الشأن الأدبي، بل وجعل
الأدب وسيلة شاملة لارتقاء المجتمع (والأدب فعلا كذلك)، فالقضية عنده ليست أن يلقي
الأديب نصه الإبداعي في ملتقى أدبي ثم يمضي منتشيا وكفي، بل الأمر كيف تتحول تلك
الرؤى والقيم والأفكار التي عبأ بها الأديب نصه الإبداعي إلي واقع معاش، لذلك نجد
أنه اجتهد في كتابة المقالات يناقش من خلالها قضايا ومشكلات الحياة الفكرية
والثقافية مستندا في ذلك لرؤيته تلك وخبرته الواسعة في الشأن الأدبي.
ومن هذا المنطلق كان إنتقائي لقصيدته (أبي قال لي) فهي تحمل الوصايا التي يهديها الأب بخبرته إلي
ابنه يرشده بها في دروب الحياة، بل يمكن أن نقول أنها (وصفة السعادة)، واعتقد أن
كل عاشق للأدب الجميل يحب هذه القصيدة إذ أنها تتماس لا محالة مع نداء الخلق
القويم ورحابته والتي تطوف به حول جانب آخر من الحياة الكريمة، والتي تنفي في
الوقت ذاته قتامة الأدب وسوداويته المفجعة والتي جعلت أرواحنا محتنقة، بل وتصف
الحياة وكأنها بسبيلها نحو الدمار والعبث كما نقرأ صباح مساء.
قرأت القصيدة ، فأدركت أنني أمام نص إبداعي يستمد
وهجه من تلك الأصالة التي طالما قرأنا عنها في تراثنا المجيد، كيف أن الأب يهدي
شعره ونثره إلي ولده، وكيف كانت الأم العربية تهدي وصاياها لابنتها تحثها بها نحو
غرس ثمار السعادة في حياتها الأسرية وإجتناء ثمار السعادة أيضا - وكلنا يذكر وصية
الأم في ليلة عرس ابنتها قالت لها مرشدة (كوني لزوجك أمه يكن لك عبدا)-
فأين نحن من ذلك ؟! ، وساحات المحاكم تغص بالملايين وقد غاضت صدورهم بالأحقاد
والإحن (في إحصائية تسعة ملايين قضية).
هذا ما تنبه له وجداني وأنا أطالع القصيدة لأول
مرة، أنها تطل علينا بوجهها المشرق من الزمن الجميل، زمن تزينه العفوية ونصاعة
الشهامة، وألحان السعادة العذبة.
والقصيدة نبعت من نبع القرآن الكريم واقتبست من
إشعاعاته المبهرة المشرقة بالعطاء، فكأن الكاتب امتزجت روحه بسورة لقمان وهو يعظ
ابنه، كما يضمن من آيات القرآن الكريم من سورة الإسراء: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن
تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً }الإسراء37
وظلت مشاعري ينتابها قلق عاصف من أن تتبدل محاور
القصيدة لترنو إلي واقعنا البائس، لكنها لم تكن كذلك، ولعل الشاعر فطن أن علاج
الشر لا يكون إلا بالحب، وأن دواء الحقد لا يكون إلا بالحكمة والعفو، وأن بهجة
العمر لا تكون إلا برحابة الخلق، وعلي هذا نصت الشرائع السماوية، واشتملت النصوص
الشريفة والفكر النير الذي يحمل نظرة خبيرة بطبائع البشر وحقائق الحياة.
ورغم ذلك هل كانت القصيدة مباشرة في صياغتها لأنها
تتحدث بالعظات والوصايا، وتصف الأخلاق الحسنة؟، لم تكن كذلك لعدد من الأسباب بداية
تلك اللغة الرفيقة الشاعرية والتي تقطر بالإشفاق والتأميل ترتب علي القلوب، والأمر
الآخر أنها تدرك لحظات الضعف وتقرها وتعترف بها وتصف الشخصية الإنسانية من خلالها،
فهي تصف أدبيا الوعي بطبائع البشر وما جبلوا عليه من أخلاق يقول:
( إذا قمت في الناس أشفق عليهم
فليسوا – كما تلتقيهم – سواء
فمنهم كسول
ومنهم عجول
ومن يستبد به الكبرياء
ومنهم يحاول تجميل وجه
ليخفي خلف النقاب العناء
فضمد جراح الذين استجاروا
وخفف عليهم صنوف البلاء (
فليسوا – كما تلتقيهم – سواء
فمنهم كسول
ومنهم عجول
ومن يستبد به الكبرياء
ومنهم يحاول تجميل وجه
ليخفي خلف النقاب العناء
فضمد جراح الذين استجاروا
وخفف عليهم صنوف البلاء (
لذلك أعتقد أن هذه القصيدة وثيقة تؤكد البعد
الأخلاقي في الأدب إذا امتزجت بفنية مؤثرة تستمد طاقتها من الصدق في الأدب والذي
كما ذكر بعض النقاد أن هذا الصدق: روح النص الأدبي وسر الفن.
أيضا كان التوفيق في تجنب
الوقوع في شراك اللغة الخطابية، بمعني أن القصيدة امتازت بالنظرة التأملية وتقطير
الحكمة بما جعلها قريبة من الأفئدة لأنها تقترن لديهم بما استقر في وعيهم من مثال
كريم، رغم الواقع العاصف
بالتالي لم تكن الخطابية
وسك النصائح سمة القصيدة بل تلك النصائح الممتزجة بروح الشاعر وصدقه الفني .
ألم أقل لكم أنها وصايا من الزمن الجميل ؟!
.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قصيدة
أبي قال لي(3)
شعر: الورداني ناصف
وحين تفتح عينيك كل صباح
فبسمل.. وحمدل
وقل لا إله سوى الله
هلل.. وكبر
تكن دائما في صفا وارتياح
وقم من سريرك..
وارفع يديك وعينيك
نحو السماء
وقل – صافي القلب –
أستغفر الله من كل ذنب
ومن أي ذنب
ومن كل داء
وصل له ركعتين إذا ما توضأت
واشكره
أجزل له في الثناء
تضرع إليه بشوق
وسله
تراه يمد إليك جسور العطاء
أدرك بني
بأن اللجوء إلى الله غنمٌ
وأن الخضوع علا وارتقاء
أبي قال لي:
إذا سرت في الأرض
فاضرب برفق
فإنك (لن تخرق الأرض) يوما
ولن تبلغ الطود طولا
ولو جاءك البعض كي يسألوك
ويلقوا عليك كلاما ثقيلا
فرد عليهم بدون استياء
وقل دون طمس الحقيقة قولا
يريح القلوب ويبري العليلا
ولو حاول الشر أن يحتويك
فأطبق عليه جناحيك
واكبح جماحك
تنظره يخبو قليلا قليلا
فمن يعمل العقل في كل شيء
فسوف يرى كل شيء جميلا
أبي قال لي:
إذا قمت في الناس أشفق عليهم
فليسوا – كما تلتقيهم – سواء
فمنهم كسول
ومنهم عجول
ومن يستبد به الكبرياء
ومنهم يحاول تجميل وجه
ليخفي خلف النقاب العناء
فضمد جراح الذين استجاروا
وخفف عليهم صنوف البلاء
أبي قال لي:
تمهل وفكر إذا أمَّروك
وكن سيف حق إذا حكَّموك
وكن مخلصا لا تزايد عليهم
وكن واسع الأفق لو ناقشوك
أمينا تكون إذا ما استشاروا
وكن صادق القول لو شاوروك
قويا مع الحق.. واحكم بحزم
ورد برفق إذا جادلوك
وكن يا بني حكيما إذا ما
لدرء الملمات هم أرسلوك
دع الكبر لو كنت ترجو الأمان
وسر بالتواضع حتما تصان
وكن في البلايا ذكيا حصيفا
وعند احتدام الوغى عنفوان
فلا عز بالجبن يوما عزيز
ولا عاش بالخوف يوما جبان
ومن يحذر الكر يحيا ذليلا
ويبقى أمام البرايا مهان
إذا ناقش الناس يوما بجهل
عليك بأن ترتقي بالحوار
ولا تدع الشر يطغى عليهم
وحاول بألا يتوه المسار
فكم في الشرور تموت الأماني
وبالجهل يا كم يضيق الحصار
لسانك لو صنته سوف ترقى
وتصبح في الناس دوما مهابا
فحاول مرارا بألا يثار
فلو ثار لم نجن إلا العذابا
صحابك فتش عليهم برفق
وكن حاذقا في اختيار الصديق
فإما ترى فيه يوما عدوا
وإما ترى فيه نعم الشقيق
وإياك صحبة نذل بدرب
ولو كان نورا يضئ الطريق
تزود من العلم لو شئت نفعا
وبالفكر لو رمت بعض الكمال
فبالعلم تسمو دواما وترقى
وبالفكر تصبح أذكى الرجال
ولو غلف الجب قلبا جحودا
لرق وأضحى يسير المنال
إذا ضاق رزقك لا تبتئس
فرزق العباد على ربهم
هو الـ... يبسط الرزق أنى يشاء
لمن شاء.. يعطي بلا علمهم
فسبحانه الله يعطي رضاه
إلى الخلق وهو عليم بهم
بني إذا ما أتاك امرؤ
وأودع عندك أسراره
فحافظ عليها ولا تفشها
ولو كنت تعلي بها قدره
فلن يغفر الله سرا يذاع
ولو قدم المرء أعذاره
إذا قلت قولا فكن صادقا
ولا تك فظا ولا حانقا
فبالصدق يخضر وجه الحياة
ويصبح فجر الرؤى مشرقا
صل الأهل أحسن دوام الصلة
ولا تقطع الله ما أوصله
صل الأهل وانفض هموم الحياة
ويسر إذا ما أتت مشكلة
فأهلك أهلك لو خاصموك
فلا تستكين لقطع الصلة
قل الحق واحذر جموح اللسان
فبالصدق لن تك يوما مهان
وبالصدق كم تستقيم الأمور
ولن يستقيم بإفك لسان
فلو كان بالكذب يحلو الكلام
فبالصدق يحيا ويسمو الأمان
إذا أنت سافرت فاختر رفيقا
وكن صادق الحس في الاختيار
فإما تراه رفيقا عزيزا
يهون عليك هناء النهار
وإما تراه حقودا كريها
يثير لديك الذي لا يثار
بني إذا ما سمعت الأذان
فقم جاهدا كي تؤدي الصلاه
ولا تتكاسل لكي لا تضيع
الفروض فيغضب منك الإله
فترك العبادة جرم عظيم
ولا ينفع المرء عز وجاه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش :
( 1 ) صحيفة أخبار الأدب – العدد 1426 – 27-3-2005
– أرشيف الصحيفة علي الإنترنت .
( 2 ) الشاعر (رحمه الله) عضو بعدد من الجمعيات
والنقابات ورئيس تحرير عدد من الصحف كذلك منها: مصر والنداء الدولية والنيل
سابقا ومجلتي كل الدنيا والرياضة، وقد حصل علي المركز الأول في الشعر علي مستوي جامعة
حلوان، والزجل في العام نفسه، والمركز الثاني في مسابقة الثقافة الجماهيرية من
بين 389 متسابقا، وهو محاضر مركزي بهيئة قصور الثقافة الأمر الذي يمكنٌه من ارتياد
آفاق مصر بحثا عن المواهب.
( 3 ) القصيدة من موقع المثقف العربي الإلكتروني ،
ومنشورة بديوانه الأخير عن الهيئة المصرية العامة للكتاب " قطرات من الشوق
" – عام 2007م .

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق