قراءة في رواية (الغولة) للروائي الرائع: كارم عبد الغفار
أ.عبد القادر أمين
الرواية إصدار " دار الفرقان " طبعة 2009
عدد الصفحات 150
الورق قطع خاص مقاس 22 × 12 سم
" الغولة " رواية تملك مقومات الروائيين الكبار
وجدت نفسي " محمود " وتمنيت ليلة الزفاف بحبيبتي " عائشة " بعد طول الانتظار والصبر ثم وجدت نفسي أحترم " مطاوع الغنام " الذي انتصر على ضعفه وكان معه الخلاص وكشف المستور... وكثيرا ما وجدت الصورة غالبة على ضمن أهل الناموسية المقهورين وكأني في كابوس يرى النهار هو المخرج ـ كما يراه الكاتب ـ
• الرواية كشفت النقاب وقدَّمت لنا روائيا مجيدا يملك أدواته ومفردات موهبته يديرها ويوظفها لتخدم منظومة التصور والإبداع عنده مما يأسر القارئ كي يكمل القراءة ويفتح شهية الناقد كي يمتع قلمه بالكتابة عن هذه الفريدة البديعة.
• استطاع الكاتب أن يجمع بين الرمزية والواقعية وصنع مزيجا من الأمل والألم ويرسم صورة جميلة حتى مع عنوانها الموحش " الغولة " وفكرة السيطرة الروحية على القارئ بما يشبه الغموض المخيف والذي تترقب معه النفس كل جديد غير متوقع ولا مألوف.
• أقف بداية مع الغلاف البديع والمعبر إلى أقصى درجة بلونه الأحمر " الدموي " والذي يعكس مدلولا صادقا للغولة ومعنى الافتراس ثم الصورة المعبِّرة بغموض الوجه وتراكم البيوت والذي يتداخل مع شكل الجماجم والتي ترقى عليهم الغولة ولم يعب هذه الفاتحة الجميلة إلا تصدُّر اسم دار النشر فوق مسمى العمل.
• جاء بديعا أن يكون الكاتب جزءا من العمل يتولى السرد في نوع من المشاركة التفاعلية تجعل القارئ يشعر بالمصداقية فالمتحدث يعيش الأحداث ويصف من داخلها وهو فرد مؤثر في مجرياتها.
• الأسلوب جزل والألفاظ محددة وتعرف طريقها وكأنها هي التي تقود القلم على سطر الإبداع وحتى عندما تختلط العامية مع الفصحى على لسان الراوي لا تجد تكلفا ولا غضاضة بل تنساب وكأنها جزء من البلاغة في مكانها لا تنفك عن أقرانها الفصحاء مثل:
" يضرب حشيشا " صـ 94
" علقة تفوت ولا حد يموت " صـ 78
" فشار وطفس " صـ 40
" من طقطق لسلامو عليكو " صـ 49
وسواء كانت الفصحى أم العامية فإنه تبهرك المحافظة على ضبط تشكيل بعض الكلمات التي يجب أن تقرأ بشكل صحيح ومقصود مثل صـ 53 على سبيل المثال
ولأول مرة أقرأ عملا أدبيا حديثا بلا أخطاء مطبعية اللهم إلا اثنين أو ثلاثة وبالقياس لحجم العمل فهي لا تذكر، وأحييه على هذه المراجعة والدقة.
• جاء اختيار اسم القرية بـ " الناموسية " ليعكس مدى الانغلاق على الذات والانقطاع عن العالم كما يحمل في طياته صورة لشعب ضعيف لا يقوى على التحمل والمواجهة لمشكلاته.
# وأجدني مشدودا للوقوف مع الكاتب ـ ربما لأنها المرة الأولى التي أقرأ له ـ أكثر من مروري على الرواية مباشرة والتي من الممكن أن تصاحبني في الكلام بطبيعة الحال وأراه يتمتع بما يلي:
1- الشاعرية والعذوبة استطاع بها أن يجعل من الحكي الموزون الموسيقى نسيجا لا يتجزأ من مجريات الأحداث بل مؤثرا ومعبرا في كثير من الأحيان حتى بعدما غاب "عبادة الصييت " عن المشهد ظل صوته العذب يغرد في فضاء الرواية.
2- الموهبة الحقيقية والتي جاءت معها الصور أنيقة شيقة بديعة عندما تقرأ
صـ 103 " ننفض عن ثيابنا التراب وعن أرواحنا الهموم.
صـ 109 " وهنت أعصاب عائشة وسبحت على شواطئ اليأس " والسباحة على الشاطئ الموصوف باليأس يزيد الصورة تعقيدا وإحباطا
صـ 51 " كنا نستحم بالشمس حين شروقها " وكأنه يغسل أدران الليل وأقذاره من الخوف والرعب ويؤكد هذا المعنى في نفس الصفحة " أوشك النهار أن يهبط الميدان ويزيح ضيفه الثقيل من وجه السماء وهي صورة تحمل الأمل والتفاؤل حين يكون النهار هو صاحب المكان ويقصي ضيفه الثقيل " الليل " فالأصل عند " كارم " هو النهار كصورة من صور الخلاص يقول عنها " لهذا عشقنا النهار " بما يحمل من الوضوح والبشر ويؤكد ذلك أيضا عبارته في نفس الصفحة " تحالف الليل مع الجنية اللعينة ".
صـ 59 " الجدار الطينى الذي تساقط معظم طلاؤه وشيبته مصائب السنين "
صـ 68 " لم نر أحدا سوى الظلام يتلصص علينا من الخارج " وهي ترسيخ لمدلول الظلام بفساوته وتآمره.
3- الاهتمام بالتفاصيل مع تحليلها ليعيش القارئ روح المكان وتتجلى المعايشة أكثر حين الإلحاح عليها في كثير من المواقف مثل صـ 79 " في المنتصف رأينا تمثالا عجيبا لأنثى شبه عارية مربوط بقدمها كلب أسود هادئ أليف كأنه عنزة، يدور الكلب حول التمثال ببطء كأنه يدور حول ساقيتنا بالضبط مثل حمار " متولى الدرويش " وبجوار التمثال بركة مياه أسنة ضحلة يبدو قاعها للمدقق " أو صـ 47 " بلع متولي لعابه وضم عينه المفقوءة ليحدق بالمفتوحة " ولا تملك حينها إلا أن تتجاوب مع الحركة وأنت تقرأ. أو صـ 52 " ومع بزوغ الفجر وانكشاف عورات الليل تصالحت الرياح مع أوراق الشجر فهدأ حفيفها وكأنها قد اطمانت أن الخطر قد زال مع خطوط الصبح التي رسمت في بطن السماء لكن لا يزال السكون المخيف يخيّم على الناموسية اللهم إلا أوركسترا الضفادع التي تعزف أناشيدها في حقول الأرز " وفيها من الإبداع ما يضفي جمالا على المصداقية في الوصف والتجذر في حياة القرية بمفرداتها الخاصة. او صـ 134 " بدت القرية وكأنها قد قاءت أهلها ـ وهو تصوير بديع يحمل في طياته كراهية القرية لأمثال هؤلاء الناس القانعين الخائفين ـ وكأن لم يبق فيها إلا أنا وعائشة ـ وكأنه استثناء تام يفصل الكاتب وعائشة عن البلدة التي جاء التعبير عنها بالكراهية ولم يعتبر نفسه وأخته منها بدليل قوله " لم يبق فيها " ولم يقل وهو في الأصل يتحدث عن أهل القرية " لم يبق منهم " وكأنه انسلاخ وتبرأ من هذه التبعة المفجعة المخزية لأصحابها والتي لا تشرفهم واتضح ذلك أكثر في تهنئتهم لـ " رجاء " بلفظ " تبا لها "
4- عقلية راجحة تنفذ إلى المطلوب غلبت عليها روح الحكمة وعركتها السنون فجادت بقريحتها في درر متناثرة فيها من الإضاءات ما ينبؤك عن شيخ وقور يحيا بين السطور على الرغم من حداثة سن الراوي لكنه يفهم كل ما يدور حوله مثل صـ 114 وتصويره للضمير المخادع الذي يستريح بصيت ذائع أو عبادة بلا شوكة وفي صـ 137 أن صاحب الحق لما بينهزم بيقوم تاني زي الحصان لأن مش هوه اللي بيحارب ده الحق والحق بسبع أرواح ـ ولولا التعبير بالعامية لقال بسبعة أرواح وفي صـ 131 بمقولة عائشة " شرع الله القصاص " والقلب عندما يحمل الهم يبطق بالحكمة التي تجيش في صدور الكثيرين من المثقفين والعامة وربما الدهماء بعد رؤية الوضع يسوء يوما بعد يوم أنه لا بد من القصاص، ثم خبرة الواقع التي عبرت عن الطرق الملتوية بإبداع جميل حين قال " ثم تعرف على أحد السلالم الموصلة إلى الطابق الأعلى فصعد عليها بعد أن تزوج إحدى قريبات هذا السلم
وربما عاب هذه العقلية بعض المواقف التي جاءت مباشرة واضحة مثل صـ 127 حين قال مباشرة " أو الركون لدعاة الثورة " وهو لفظ دخيل على مفردات العمل بأكمله أو صـ 46 " وهكذا تتكون الأحزاب عندنا "
# كما تظل النخوة والكرامة ـ والتي لعب على وترها الكاتب ـ تظل هي المحرك والمثير والمُخرج لمكنون ردود الفعل وهذا ما لعبت عليه عائشة مع مطاوع الغنام والذي كان معه السر فيما ظهر بعد ذلك صـ 140
5- عاطفة إسلامية وثقافة قرآنية واعية تشربت دينها بشكل طبيعى غير مفتعل ووظفت المعاني حسب مرادها ظهر ولعب فيها التناص دورا رائعا ضمنيا في مواضع كثيرة بالتقريب مثل صـ 132 " وما كنا عنه حاجزين " أو صـ 84 " لرجال ونساء سبقونا بالإيمان " أو صراحة في قوله " وكل يجري لمستقر له ".
6- سيطرة روح التحليل وعرض الأسباب وإقناع القارئ بمنطقية الألفاظ قبل الأحداث يعكس أيضا عقلية بديعة رائعة واقتناع كامل بما يكتب يفرض احترام القارئ مثل تبرير موقف أم الخير في مصيبتها مع مشكاح وأنها من الممكن أنها لم ترفض الأمر أصلا صفحات 104، 105، 106 ـ أو حين يقول " وكنت خبيرا في معاني النظرات ـ ويتذكر صغر سنه فيبرر للقارئ هذه الخبرة ليقنعه من أين جاءت له هذه الخبرة فيقول صـ 82 " لطول رفقتي بالشيخ والشيخة ".
7- روح الدعابة والطرافة والتي تتماشى مع السياق حين يتحدث مثلا عن سبب وفاة زوج خاله مكاسب كنتيجة طبيعية لعشر سنوات مع سيدة طيبة مثلها صـ 15 أو حين يتحدث في صـ 17 عن حركة الحمار متدللا وكأنه على خشبة عرض أزياء أو كأنه يريد إخبار الناس أنه حامل أيضا مثل البقرة.
وفي الختام أجدني مشدودا للانبهار بهذه الإضاءات المختصرة في نهاية العمل صـ 150 والتي تحمل في طياتها وبين حناياها جزءا جديدا من الرواية ينبئ عن قامة كبيرة لو استمرت على هذا الدرب ستتحقق بها آمال الرواية المحترمة الهادفة في أن تجد لها مكانا بين العبثية المنتشرة الآن.
أثمن هذا الإبداع وأضمه لقائمة المكتبة الروائية الشامخة كما أزهو فخرا بمبدعها الذي لا يقل قامة عن الفحول أمثال نجيب الكيلاني أو علي أحمد باكثير .
للكاتب كل التقدير
وللرواية كل الاحترام
ولنفسي كل الشكر حين سمحت لي بقراءة صافية واعية ممتعة
ولكل من يقرأ الموضوع بالتحية والامتنان
رؤيتك الرائعة.. رواية أحلى الرواية..
ردحذفكلما مللت الكتابة قفزت إلى كلماتك شاعرنا وناقدنا الجميل