الثورى الهادئ
دراسة نقدية للدكتور / رأفت مزروع
عرفت الشاعر خالد الطبلاوي منذ حداثة عهده بالشعر وهو الذي تدفق الشعر على لسانه صغيراً ، وكلما تذكرت تلك الأيام الخوالي حين كان يقرض الشعر وهو لا يدرى من قواعد الشعر والبحور شيئاً، وكان يخرج عن النغمة إلى نغمة قريبة منها دون أن يدرى، وحينها هتفت سبحان الله !! وأيقنت أن الشعر موهبة ربانية .
بين يديك عزيزي القارئ شاعر من طراز فريد ، غزير العطاء يفيض الشعر على لسانه في كل محفل، ومتعدد المواهب شاعر وقاص ومسرحي، وله عدة إصدارات قصصية ومسرحية .
وهو في الدرجة الأولى إنسانٌ وقور تعايشه فيجذبك ببشاشة وجهه، وعذوبة منطقه، وحسن أدبه، ودماثة خلقه، وتقرأ له فتشعر أنه يعيش بداخلك، ويخالطك أفراحك وأتراحك، ويشاركك أحلامك ويدمل جراحك، ويكشف مكنون فؤادك.
أما الديوان الذي بين أيدينا فهو نبض الفؤاد وشجن الحياة بحلوها ومرها، تجسدت فيه آمال الشباب العربي المسلم، وهو في الوقت ذاته تجسيد لآمال الأمة العربية، وتطلعاتها لمستقبل مشرق ، وتمثلت فيه جراحاتها النازفات ، نكأ فيه الشاعر وخزات ضمائرنا نحو الأقصى السليب ، والمآسي التي عانت ولا تزال تعانى أمتنا .
إنه نبض قلب حي ، وصحوة ضميرٍ يقظ ، وأنات فؤادٍ ملتاع ، وعينٌ تتطلع إلى فضاء الحرية والكرامة ، والنصر المؤزر بإذن الله .
تقلب صفحات الديوان ترى شاباً ثائراً متمرداً على الظلم والتخلف ، عربياً أصيلاً ، تمتد به أواصرُ الحب إلى كل الأقطار العربية من المحيط إلى الخليج .
إنه ثوريٌ منضبط ، وقوميٌ عربي ، وإسلاميٌ ملتزم ، وشاعرٌ قرآني يفيض معجمه بألفاظِ القرآن ومعانيه ومراميه .
الأغراض الشعرية فى الديوان :
تتنوع في الديوان الأغراض الشعرية كالمديح والهجاء ، والنسيب والرثاء والفخر ، والعتاب والحكمة ويحظى وصف الطبيعة وشعر التأمل بنصيب وافر من تجاربه ، فالشاعر له رؤية واضحة تجاه الشعر : (وما الشعر إلا شعورٌ رقيق / ونبض يعبر عما بيه/ وروحٌ حوته دماء الأديب/ وماءٌ يعربد في الساقيه/ وفكرٌ يشعشع في كل درب/ سناه نبوءته الباقيه/ ووجدٌ وشوقٌ وفرحٌ وعشقٌ/ تهيم به المهجة الواعية/ وما الشعر إلا لسانُ الزمان/ ومرآةُ أحواله العاتيه/ ولونُ المكان وعزفُ الخيال/ وقصُ القرون بلا راوية)
ويتجلى شاعرنا ثائرا حرا أبيا متمردا على كل ألوان الفساد والظلم ، ولا عجب فهو من صناع ثورة الخامس والعشرين من يناير ، وكان ممن ذاقوا مرارة الظلم ، وتجرعوا كؤوس القهر والسجن .
وفى لحظات عصيبة يرسل قبلة الوداع لكل طاغية وفى مقدمتهم الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش حين فاجأه صحفيعراقي فرماه بنعله في وجهه :( تباريح المخازي ما تزال/ تسطرها على الرأس النعالُ/ رؤوسٌ خاطئات ليس يجدي/ لكسر غرورها أبداً مقالُ/ فكان لها الحذاء فنال منها/ تبز بلاغة القول الفعالُ/ فيا إرث الفراعين القدامى/ خسئت وهدك الداء العضالُ/ ولغت بعرض أمتنا مليا/ وكان نهايةَ الظلم الخبالُ/ ختام شانه عار وذل/ ألا بئس التقلب والمآلُ)
ويسرى النفس الإسلامي في الديوان كله وتلك دلالة على نشأة الشعر في محضن جماعة الإخوان المسلمين ، وقد نهل من معين الإسلام الصافي وموارده العذاب لذا تبدو المعاني الإسلامية بادية في كل غرض هي حارسه الأمين ودافعه في كل تعبير ، لأنه شاعر جعل فنه في خدمة مجتمعه وأمته ، يحمل هموم الأمة وينشغل دوما بقضاياه وفى الصدارة منها قضية الأقصى المبارك والقدس المحتلة وإنسانها المقهور.
وله وقفات بديعة تليق بأشهر مهرج في السلك السياسيالعربيالمخزي ( القذافى ) فتارة يطلق عليه " أمير التكتك المسحور " حين ثار عليه شعبه ، وأشيع أنه قد فر إلى إيطاليا فخرج مزهوا بنفسه في عربة ( التوك توك ) ليؤكد أنه باق في طرابلس ولم يبرحها :
نفس الغباء
في معطف من كبرياء
لبسته قبلك يا أمير التكتك المسحور
أنظمة الخواء
يا وارثا زى المهرج والمظلة
وارتشفت من الحذاء
وحين كتب الله النجاح لثورة مصر يهجو الرئيس المخلوع ، ثم يهتف مفتخرا :
الله اكبر كم عـــــزت بنا أمم وأرهفت لخطانا العرب والعجم
وسار بين ربانا العز مفتخرا بالنصر يسمع قهرا من به صمم
ولكنه يصر أن يضع تاج الفخار على من يستحق
وأعنى الشهيد :
ما أجملك
والوجه طهر باسم
من نوره وجه الملك
ويكتب عن ربيع الشارع العربيأينما كان اليمن السعيد ، وسورية الشماء ، وليبيا الكفاح .
ومن أروع ما تميز فيه الشاعر شعر الحكمة التي بثها الشاعر في سياقاتها الملائمة تذكر بحكيم الشعر العربي (زهير بن أبى سلمى) إذ يقول مفاخرا بانتسابه لأمة الإسلام :
من أمة إن تكن أغمضت زمنا
فالأسد تكمن في أحراشها حينا
لا يحسب الغرُّ أن الشمس قد أفلت
إن المغارب لا تنســــى أيادينا
ومثل هذه الحكم وهى كثيرة تنبئ عن روح وثابة ، وموهبة خلابة، وعقلية خبرت دروب الحياة
نتاج الشاعر امتداد لتراث الأمة :
ينطلق الشاعر من معين ثر ، وكنز ثقافيوأدبي ، وتستطيع بسهولة أن تلمح أثرا لعدد من شعراء العربية القدامى ، كما يلمح ذلك فى قصيدة يبدو متأثراً فيها بميمية عنترة العبسي الذي قال فيها:
ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ
منى وبيض الهند تقطر من دمى
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبســــــــم
على نغمتها ونهجها يقول الشاعر خالد :
ولقد ذكرتك والكلاب توغلت
في أرضنا تسقى وتشرب من دمي
فرفعت رايات الجهاد فلم أجد
إلا السيوف الخائنات لمعصـــــمي
وتشتم عبق كل من ابن زيدون والمتنبي يسرى خفيا بين ثنايا تجارب الشاعر ، وأختم بقافيته التي يبدو التأثر فيها واضحا بقصيدة أحمد شوقي :
أجيبي القلب حبا يا دمشق فملء القلب من عينيك عشق
فمن درعا إلى التحرير نهر جرى بالدمع قد أجراه شوق
ولا يتعدى ذلك كونه تأثرا بمخزون ثقافي استقر في معجم الشاعر الشعوري ، أو ربما يكون تواردا للخواطر كما أكد لي الشاعر الذي أقسم أنه لم يقرأ قصيدة أحمد شوقي إلا بعد أن نبهه أحد الأصدقاء إليها بعد أن كتب قصيدته .
القالب الموسيقى في ديوان الشاعر :
تتعدد القوالب الموسيقية في نتاج الشاعر بين الشعر العمودي وهو الأغلب ، ويتقلب بين أوزان الشعر التقليدية بانسيابية راقصة بديعة ، والشعر الحر ، وقوالب موسيقية متفاوتة كالرباعيات أو المقطعات لكن الملحوظ أن الشاعر خالد حين يكتب شعرا حرا تسكنه روح الشاعر التراثي ( العمودي ) المنسابة في أفياء الشعر ،وتبين ذلك من خلال ملحوظات كثيرة سجلتها على قصائد الشعر الحر أمددت الشاعر بها ، لذا حرص كثيرا على أنماط الموسيقى الداخلية في القصيدة كمثل : التصريع ، وحسن التقسيم .
وقوافي القصائد ذوات إيقاع موسيقى موقع ، وحين استعان بالقوافي المقيدة جاءت في موضعها .
وفى الختام يحق لكل عشاق الشعر العربي أن يفخروا بهذه الموهبة المتأنقة المتألقة ، وأرجو له التوفيق السداد .
د. رأفت يحيى محمد مزروع
دكتوراه الأدب العربى والنقد
كلية اللغة العربية
جامعة الأزهر الشريف
5/2/ 2012